تمهيد:
سبق أن بينا في بحث أهمية التصوف أن للنفس صفات خبيثة وأخلاقاً مذمومة، وأن إزالتها فرض عين ـ كما نص على ذلك عامة الفقهاء ـ ولكن صفات النفس الناقصة لا تزول بالأماني ولا بمجرد الإطلاع على حكم تزكيتها أو قراءة كتب الأخلاق والتصوف، بل لا بد لها بالإضافة إلى ذلك من مجاهدة وتزكية عملية، وفطم لنزواتها الجامحة وشهواتها العارمة
تعريف المجاهدة: . فمجاهدة النفس فطمها وحملها على خلاف هواها المذموم، وإلزامها تطبيق شرع الله تعالى أمراً ونهياً.
دليلها من الكتاب والسنة:
قال الله تعالى: {والذينَ جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهم سُبُلَنا} وقال العلامة المفسر ابن جزي في تفسير هذه الآية: (يعني جهاد النفس).
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهدُ مَنْ جاهد نفسَهُ في الله" [أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد وقال: حديث حسن صحيح، وزاد البيهقي في "شعب الإيمان" برواية فضالة: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب". "مشكاة المصابيح للتبريزي" كتاب الإيمان رقم 34]. وفي رواية: لله.
حكمها:
تزكية النفس فرض عين كما سبق أن بينا ذلك ولا تتم إلا بالمجاهدة ومن هنا كانت المجاهدة فرض عين من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
قابلية صفات النفس للتغيير:
لا شك أن النفس الإنسانية قابلة لتغيير صفاتها الناقصة وتبديل عاداتها المذمومة، وإلا لم يكن هناك فائدة من بعثة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ ولا ضرورة لمن بعده من ورثته العلماء العاملين والمرشدين المصلحين.
وإذا كان كثير من سباع الطيور والبهائم قد أمكن ترويضها وتبديل كثير من صفاتها، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى وخلقه في أحسن تقويم، من باب أولى.
وليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها ؛ بل المراد تصعيدها من سيء إلى حسن، وتسييرها على مراد الله تعالى وابتغاء مرضاته.
فصفة الغضب مذمومة حين يغضب المرء لنفسه، أما إذا غضب لله تعالى فعندها يصبح الغضب ممدوحاً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتُهكت حرمات الله أو عُطِّل حد من حدوده، ولكنه حين أُوذي في الله وضُرب وأُدمي عقبه يوم الطائف لم يغضب لنفسه ؛ بل دعا لمن آذَوْه بالهداية والتمس لهم العذر فقال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"
طريقة المجاهدة:
وأول مرحلة في المجاهدة عدم رضى المرء عن نفسه، وإيمانُه بوصفها الذي أخبر عنه خالقها ومبدعها: {إنَّ النفس لأمَّارةٌ بالسوء}[يوسف: 53].
وعلمه أن النفس أكبر قاطع عن الله تعالى [والقواطع عن الله تعالى أربعة: النفس، والدنيا، والشيطان، والخلق. أما عداوة النفس والشيطان فظاهرة، وأما الخلق فملاحظة مدحهم وذمهم تعرقل سير السالك إلى ربه، وأما الدنيا فالاهتمام بها وانشغال القلب بتقلباتها قاطع كبير عن الله تعالى، ففي حالة الفقر تكثر هموم المرء فتشغله عن الله، وفي حال الغنى ينشغل بزينتها وزخرفها عن الله تعالى: {إنَّ الإنسانَ ليطغَى . أنْ رآهُ استغنَى} [العلق: 6ـ7]. أما إذا أخرج حبها من قلبه فإنها لا تضره، كما قال شيخ الصوفية سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (أخرج الدنيا من قلبك، وضعها في جيبك أو في يدك فإنها لا تضرك) كما أنها أعظم موصل إليه وذلك أن النفس حينما تكون أمَّارة بالسوء لا تتلذذ إلا بالمعاصي والمخالفات، ولكنها بعد مجاهدتها وتزكيتها تصبح راضية مرضية لا تُسَرُّ إلا بالطاعات والموافقات والاستئناس بالله تعالى.
وقال بعضهم:
فإذا عرف المسلم ذلك أقبل على نفسه يفطمها عن شهواتها المنحرفة وعاداتها الناقصة، ويلزمها بتطبيق الطاعات والقربات.
ويتدرج في المجاهدة على حسب سيره، فهو في بادىء الأمر يتخلى عن المعاصي التي تتعلق بجوارحه السبعة، وهي:
اللسان والأذنان والعينان واليدان والرجلان والبطن والفرج [لكل جارحة من الجوارح السبعة معاصٍ تتعلق بها، فمن معاصي اللسان: الغيبةُ والنميمة والكذب والفحش. ومن معاصي الأذنين: سماعُ الغيبة والنميمة والأغاني الفاحشة وآلات اللهو. ومن معاصي العينين: النظرُ للنساء الأجنبيات وعورات الرجال. ومن معاصي اليدين: إيذاءُ المسلمين وقتلهم، وأخذ أموالهم بالباطل، ومصافحة النساء الأجنبيات. ومن معاصي الرجلين: المشيُ إلى محلات المنكرات والفجور. ومن معاصي البطن: أكل المال الحرام، وأكل لحم الخنزير، وشرب الخمور. ومن معاصي الفرج: الزنا واللواطة...]، ثم يحلي هذه الجوارح السبعة بالطاعات المناسبة لكل منها [فمن طاعات اللسان: قراءة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن طاعات الأذنين: سماع القرآن الكريم والأحاديث نبوية والنصائح والمواعظ. ومن طاعات العينين: النظر إلى وجوه العلماء والصالحين، والنظر إلى الكعبة المشرفة، والنظر التأملي لآيات الله في الكون. ومن طاعات اليدين: مصافحة المؤمنين، وإعطاء الصدقات. ومن طاعات الرجلين: المشي إلى المساجد وإلى مجالس العلم، وعيادة المريض، والإصلاح بين الناس. ومن طاعات البطن: تناول الطعام الحلال بنية التقوِّي على طاعة الله تعالى. ومن طاعات الفرج: النكاح المشروع بغية الإحصان وتكثير النسل..] فهذه الجوارح السبعة منافذ على القلب إما أن تصب عليه ظلمات المعاصي فتكدره وتمرضه، وإما أن تُدخل عليه أنوار الطاعات فتشفيه وتنوره.
ثم ينتقل في المجاهدة إلى الصفات الباطنة فيبدل صفاته الناقصة كالكبر والرياء والغضب... بصفات كاملة كالتواضع والإخلاص والحِلم.
قال أبو عثمان المغربي رحمه الله: (من ظن أنه يُفتح له بهده الطريقة أو يكشف له عن شيء منها لا بلزوم المجاهدة فهو في غلط)
رد الشبهات حول المجاهدة:
إن قال قائل: إن رجال التصوف يُحَرِّمون ما أحل الله من أنواع اللذائذ والمتع، وقد قال الله تعالى: {قٌلْ مَنْ حرَّمَ زينة الله التي أخرجَ لعبادِهِ والطيبات من الرزق...} [الأعراف: 32].
فنقول: إن رجال التصوف لم يجعلوا الحلالَ حراماً، إذْ أسمى مقاصدهم هو التقيد بشرع الله، ولكنهم حين عرفوا أن تزكية النفس فرضُ عين، وأن للنفس أخلاقاً سيئة وتعلقات شهوانية، توصِل صاحبها إلى الردى، وتعيقه عن الترقي في مدراج الكمال، وجدوا لزاماً عليهم أن يهذبوا نفوسهم ويحرروها من سجن الهوى.
وقد تسرع بعض الناس فزعموا جهلاً أن التصوف في مجاهداته ينحدر من أصل بوذي أو بَراهيمي، ويلتقي مع الانحرافات الدينية في النصرانية وغيرها التي تعتبر تعذيب الجسد طريقاً إلى إشراق الروح وانطلاقها، ومنهم من جعل التصوف امتداداً لنزعة الرهبنة التي ظهرت في ثلاثة رهط سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا عنها كأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الثاني: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج. ولما عُرض أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحح لهم أفكارهم، وردهم إلى الصراط المستقيم والنهج القويم.
والجواب على ذلك: أن التصوف لم يكن في يوم من الأيام شرعة مستقلة ولا ديناً جديداً، ولكنه تطبيق عملي لدين الله تعالى، واقتداء كامل برسوله عليه الصلاة والسلام.
وإنما سرت الشبهة على هؤلاء المتسرعين لأنهم وجدوا في التصوف اهتماماً بتزكية النفس وتربيتها وتصعيدها، ومجاهدتها على أُسس شرعية وضمن نطاق الدين الحنيف، فقاسوا تلك الانحرافات الدينية على التصوف قياساً أعمى دون تمحيص أو تمييز.
ففرقٌ كبير إذاً بين المجاهدة المشروعة المقيدة بدين الله تعالى، وبين المغالاة والانحراف وتحريم الحلال وتعذيب الجسد كما عليه البوذيون الكافرون
والخلاصة : مَنْ لم تكن له بداية محرقة "بالمجاهدات" لم تكن له نهاية مشرقة. والبدايات تدل على النهايات.